«شجرة السنط» قصة قصيرة للكاتب الدكتور فراج أبوالليل

الدكتور فراج أبوالليل
الدكتور فراج أبوالليل

 تسلل صوت غنائها حزيناً وباكياً .. "أخويا يلملم في عضامي .. وأبويا ياكل ويقول حلو حلو .. بس حامي " .. انسحب الصوت يجرجر الظلام بصعوبة ..  ممسكاً بضوء باهت في قلبه المهموم .. الصباح يحاول الاستيقاظ بوهن وملل شديدين ..

 

بخار الماء المتصاعد .. كون طبقة رمادية من الضباب .. الشبورة حجبت النهارعن العيون .. رائحة العشب الطازج تفوح محملة بصقيع جمد أطراف يداي .. القواقع الملتصقة بالأعشاب تحركت ببطء لداخل الترعة تاركة مخاطاً لزجاً علي جانبيها ... الطريق ترابي ضيق بالكاد يمر منه حماراً أو حمارين هزيلين بمشقة .. أسير بحذر حتي لا أسقط في الترعة أو وحل الغيطان الموازية ..  الخوف من القتيلة المظلومة  بدأ يتسرسب مع بخار الماء مخترقاً أنفي المرتجف ..  كلاب العزبة ما زالت تنبح  .. القطط تموء بصوت فاجر .. الأرانب مازالت خائفة ترتجف من البرد في جحورها ..

 باءت محاولات تدفئة يداي بالفشل في تلك الأجواء الضبابية .. محاولاً التنفس بصعوبة بالغة ..  هناك علي أطراف الترعة قتلت أحلام الطفلة  "كريمة " .. خنقتها زوجة أبيها بيديها الغليظتين .. بدأ غناءها يقترب .. ثم تحول لهمهمة سريعة ..  لم يستطع أخي  الصراخ .. سكتت ثم تكلمت .. مزقت جسدي النحيف  ..  وضعت عظامي في القدر ..  أجبرت أخي علي وضع الحطب .. النار تشتعل في الموقد  وفي قلبه الصغير أيضاً .. لم يتخط أخي " عادل" أعوام الطفولة  ..  صرخت فيها .. لماذا أنا بالذات من تتحدثين معي،  بل لماذا أتيت إليك كما وعدتك في المرة السابقة..؟

 

في كل مرة أقول لنفسي لن أرجع مرة أخرى .. ولكني رجعت .. أريد معرفة ما نوع الكلمات المقتلولة.. لا أعلم لماذا أخاف عليك .. عائلة زوجة أبيك "الهلف"  تمتلك السلاح والطعام  ..  هل للموت قدرة علي زيارتك مرة أخرى .. ربما لا ..  الحقيقة أني أخاف علي نفسي  من زيارتهم لمنزلي الطينى المتهالك .. رجعت إلى المنزل بجوار المستعمرة الإنجليزية المهجورة..  شاهدت كيف همس في فمها .. وكيف وعدها بالراحة .. تلذذ الخوف والجوع بجسدها .. سألته ذات يوم  .. متى مات ضميرك  .. قال عندما ماتت الرغبة في جسد زوجتي الأولى ..

 

كان لشيخ العزية سطوة .. وحلم قديم .. دائماً ما تنجذب الفراشات للضوء والنار .. وهي لا تدري أنها النهاية .. كان الحمل سريعاً  .. شاهدت زوجة أبيها بطنها المنتفخة .. كرهت الأمل في عيونها الطفولية .. وكرهت عقمها الأبدي .. جسدها المكتنز وقامتها القصيرة جعلها مترهلة هكذا تشابهت واندمجت مع اسمها "مدكوكة ".. تساءلت كيف وجدت الرغبة طريقها لقلب  "الهلف".. منظرها طارد لناموس البركة.. ولكنه جذب قراد الجمال الصحراية.. زرعت العاقول ذو الأشواك المؤلمة..  حمل "الهلف "عصاه القصيرة ..  ضرب نقصه وقلبه المشوه.. وضع السم لزوجته الأولى ..  قتل الشيخ المغرم  في قلب المسجد وآذان الفجر ينادي للصلاة.. مزق بطن ابنته المغتصبة.. كانت وليمة دسمة وعدته  بها زوجته "مدكوكة ".. الغناء والرقص العاري .. أكل حتي شبع .. تزاحمت في فمه الكلمات الحزينة.. حين غاب عقله.. الخمر معتق من أيام النكسة.. واللحم حلو حلو.. لكنه ساخن ساخن.. والطفل  يلملم عظام الكريمة .. ثم يدسها في التربة الطينية.. وفمه يدع ربه لتنبت الأرض .. أنبتت شجرة السنط وحيدة  تقاوم أعشاب الغاب والسمار المالح .. تنتظر الماء الذى جف في الترعة .. بأوراقها الجافة وثمارها المرة.